سورة المؤمنون - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المؤمنون)


        


{وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} جملةٌ مستأنفة سِيقتْ للتَّحريضِ على ما وُصف به السابقون من فعلِ الطَّاعاتِ المؤدِّي إلى نيل الخيرات ببيانِ سُهولتهِ وكونه غيرَ خارجٍ عن حدِّ الوسعِ والطَّاقةِ أي عادتُنا جاريةٌ على أنْ لا نكلِّفَ نَفْساً من النُّفوسِ إلاَّ ما في وُسعِها، على أنَّ المرادَ استمرارُ النَّفيِ بمعونةِ المقامِ لا نَفيُ الاستمرارِ كما مرَّ مراراً. أو للتَّرخيصِ فيما هو قاصرٌ عن درجة أعمالِ أولئك الصَّالحينَ ببيانِ أنَّه تعالى لا يُكلِّفُ عباده إلاَّ ما في وُسعهم فإنْ لم يبلغوا في فعل الطَّاعاتِ مراتبَ السَّابقينَ فلا عليهم بعد أنْ يبذُلوا طاقتهم ويستفرغُوا وُسعهم. قال مقاتلٌ: من لم يستطعِ القيامَ فليصلِّ قاعداً ومَن لم يستطعِ القُعودَ فليومِ إيماءً، وقولُه تعالى: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ} إلخ تتمة لما قبلَه ببيانِ أحوالِ ما كُلِّفوه من الأعمالِ وأحكامِها المترتِّبةِ عليها من الحسابِ والثَّوابِ والعقابِ والمرادُ بالكتابِ صحائفُ الأعمالِ التي يقرأونها عند الحسابِ حسبما يُعربُ عنه قولُه تعالى: {يَنطِقُ بالحق} كقوله تعالى: {هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي عندنا كتابٌ قد أُثبتَ فيه أعمالُ كلِّ أحدٍ على ما هي عليهِ أو أعمالُ السَّابقينَ والمُقتصدينَ جميعاً لا أنَّه أُثبتَ فيه أعمالُ الأوَّلينَ وأُهمل أعمالُ الآخرينَ ففيهِ قطعُ معذرتِهم أيضاً. وقولُه بالحقِّ متعلِّقٌ بينطقُ أي يظهر الحقَّ المطابقَ للواقعِ على ما هو عليهِ ذاتاً ووصفاً ويبيِّنهُ للناظرِ كما يُبيِّنه النُّطقُ ويُظهره للسَّامعِ فيظهر هنالك جلائلُ أعمالهم ودقائقُها ويُرتب عليها أجزيتُها إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شرًّا فشرٌّ وقولُه تعالى: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} بيانٌ لفضلهِ تعالى وعدلهِ في الجزاءِ إثرَ بيانِ لُطفه في التَّكليفِ وكَتْبِ الأعمال أي لا يُظلمون في الجزاء بنقص ثواب أو بزيادة عذاب بل يُجزون بقدرِ أعمالهم التي كُلِّفوها ونطقت بها صحائفها بالحقِّ وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ تقريراً لما قبله من التَّكليفِ وكَتْبِ الأعمال أي لا يُظلمون بتكليفِ ما ليس في وُسعهم ولا بعدم كَتْبِ بعض أعمالهم التي من جُملتِها أعمالُ المقتصدين بناءً على قُصورها عن درجة أعمال السَّابقينَ بل يُكتب كلٌّ منها على مقاديرِها وطبقاتها. والتَّعبيرُ عمَّا ذُكرِ من الأمور بالظُّلم مع أنَّ شيئاً منها ليس بظلم ما تقرر من أنَّ الأعمال الصَّالحة لا تُوجب أصل الثَّوابِ فضلاً عن إيجاب مرتبةٍ معينةٍ منه حتَّى تعدَّ الإثابةُ بما دونها نقصاً وكذلك الأعمالُ السَّيئةُ لا توجبُ درجةً معينة من العذابِ حتَّى بعد التَّعذيبِ بما فوقها زيادة وكذا تكليفُ ما في الوسعِ وكتبُ الأعمالِ ليسا ممَّا يجبُ عليه سُبحانه حتَّى يعد تركُهما ظُلماً لكمالِ تنزيه ساحةِ السُّبحانِ عنها بتصويرِها بصورةِ ما يستحيلُ صدوره عنه تعالى وتسميتُها باسمهِ.
وقولُه تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مّنْ هذا} إضرابٌ عمَّا قبله. والضَّميرُ للكَفرة لا للكلِّ كما قبله أي بل قلوبُ الكَفَرةِ في غَفْلةٍ غامرةٍ لها من هذا الذي بُيِّن في القُرآن من أنَّ لديه تعالى كتاباً ينطقُ ويظهر لهم أعمالهم السَّيئةَ على رؤوس الأشهاد فيُجزون بها كما يُنبىءُ عنه ما سيأتي من قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ ءايَتِى تتلى عَلَيْكُمْ} إلخ وقيل ممَّا عليه أولئك الموصُوفون بالأعمالِ الصَّالحةِ {وَلَهُمْ أعمال} سيِّئةٌ كثيرةٌ {مِن دُونِ ذَلِكَ} الذي ذُكر من كون قلوبِهم في غفلةٍ عظيمةٍ ممَّا ذُكر وهي فنونُ كفرهم ومعاصيهم التي مِن جُملتِها ما سيأتي من طعنِهم في القُرآن حسبما يُنبىءُ عنه قولُه تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامرا تَهْجُرُونَ} وقيل متخطية لما وُصف به المؤمنون من الأعمالِ الصَّالحةِ المذكورةِ وفيه أنَّه لا مزيَّة في وصف أعمالهم الخبيثة بالتَّخطِّي للأعمال الحسنة للمؤمنين وقيل متخطيةٌ عما هم عليه من الشرك ولا يخفى بعده لعدم جريان ذكره {هُمْ لَهَا عاملون} مستمرُّون عليها مُعتادُون فعلَها ضارون بها لا يكادون يَبرحُونها.


{حتى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} أي متنعميهم وهم الذين أمدَّهم الله تعالى بما ذُكر من المالِ والبنينَ وحتَّى مع كونها غايةً لأعمالهم المذكورةِ مبدأ لما بعدها من مضمون الشَّرطيةِ أي لا يزالون يعملُون أعمالَهم إلى حيثُ إذا أخذنا رؤساءهم {بالعذاب} قيل هو القتلُ والأسرُ يومَ بدرٍ، وقيل هو الجُوع الذي أصابهم حين دَعا عليهم رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بقوله: «اللهمَّ اشدُدْ وطأتكَ على مُضر واجعلها عليهم سنينَ كسِنِي يوسفَ». فقحطُوا حتى أكلُوا الكلابَ والجِيفَ والعظامَ المحرقة والأولادَ. وأُلحق به العذابُ الأُخرويُّ إذ هو الذي يُفاجئون عنده الجؤارِ فيجابون بالردِّ والإقناطِ عن النَّصر وأما عذابُ يومِ بدرٍ فلم يُوجد لهم عنده جؤارٌ حسبما يُنبىءُ عنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أخذناهم بالعذاب فَمَا استكانوا لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} فإنَّ المرادَ بهذا العذاب ما جرى عليهم يومَ بدرٍ من القتلِ والأسرِ حَتْماً وأمَّا عذابُ الجوع فإنَّ أبا سُفيانَ وإنْ تضرَّع فيه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لكنْ لم يرد عليه بالإقناطِ حيث رُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قد دَعَا بكشفِه فكُشفَ عنهم ذلك {إِذَا هُمْ يَجْئَرُونَ} أي فاجؤا الصُّراخَ بالاستغاثةِ من اللَّهِ عزَّ وجلَّ كقوله تعالى: {وَمَا بِكُم} وهو جوابُ الشَّرطِ. وتخصيصُ مُترفيهم بما ذُكر من الأخذِ بالعذابِ ومفاجأةِ الجؤارِ مع عمومه لغيرهم أيضاً لغايةِ ظهورِ انعكاسِ حالهم وانتكاسِ أمرِهم وكونِ ذلك أشقَّ عليهم ولأنَّهم مع كونهم متمنِّعين محميينَ بحمايةِ غيرِهم من المنعةِ والحَشَم حين لقُوا ما لقُوا من الحالةِ الفظيعةِ فلأنْ يلقاها مَنْ عداهم من الحُماةِ والخدمِ أوْلى وأقدمُ.
{لاَ تَجْئَرُواْ اليوم} على إضمار القول مَسُوقاً لردِّهم وتبكيتهم وإقناطهم ممَّا علَّقوا به أطماعَهم الفارغة بتفويتهم وقتَ الجُؤارِ. وقد جُوِّز كونُه جوابَ الشَّرطِ، وأنت خبيرٌ بأنَّ المقصودَ الأصليَّ في الجملةِ الشَّرطيةِ هو الجوابُ فيؤدِّي ذلك إلى أنْ يكونَ مفاجأتُهم إلى الجُؤارِ غيرَ مقصودٍ أصليَ. وقولُه تعالى: {إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ} تعليلٌ للنَّهي عن الجُؤارِ ببيانِ عدمِ إفادته ونفعهِ أي لا يلحقُكم من جهتِنا نصرةٌ تنجِّيكُم ممَّا دهمكُم وقيل لا تُغاثون ولا تُمنعون منَّا ولا يساعدُه سياقُ النَّظمِ الكريمِ لأنَّ جُؤارهم ليس إلى غيرِه تعالى حتَّى يرد عليهم بعدمِ منصوريّتهِم من قبلهِ ولا سياقهُ فإنَّ قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ ءايَتِى تتلى عَلَيْكُمْ} إلخ صريحٌ في أنَّه تعليلٌ لما ذكرنا من عدم لحوقِ النَّصرِ من جهته تعالى بسببِ كُفرِهم بالآياتِ ولو كانَ النَّصرُ المنفيُّ مُتوهَّماً من الغيرِ لعُلِّل بعجزه وذُلِّه أو بعزَّةِ الله تعالى وقوَّتهِ أي قد كانتْ آياتي تُتلى عليكم في الدُّنيا {فَكُنتُمْ على أعقابكم تَنكِصُونَ} أي تُعرضون عن سماعها أشدَّ الإعراضِ فضلاً عن تصديقها والعملِ بها. والنُّكوصُ الرُّجوعُ قهقرى.


{مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} أي بالبيتِ الحرامِ أو بالحَرَمِ. والإضمارُ قبل الذِّكرِ لاشتهارِ استكبارِهم وافتخارِهم بأنَّهم خُدَّامهُ وقُوَّامُه أو بكتابي الذي عبر عنه آياتي على تضمينِ الاستكبارِ معنى التَّكذيبِ أو لأنَّ استكبارَهم على المُسلمين قد حدثَ بسببِ استماعِه. ويجوزُ أنْ تتعلَّق الباء. بقولهِ تعالى: {سامرا} أي تسمرُون بذكرِ القُرآنِ وبالطَّعنِ فيه حيثُ كانُوا يجتمعونَ حولَ البيتِ باللَّيلِ يسمرُون وكانت عامَّة سمرِهم ذكرَ القُرآن وتسميته سِحْراً وشِعْراً. والسَّامرُ كالحاضرِ في الإطلاقِ على الجمعِ وقيل هو مصدرٌ جاء على لفظِ الفاعلِ. وقرئ: {سَمَراً} و{سُمَّاراً}. وأن تتعلق بقولهِ تعالى: {تَهْجُرُونَ} من الهَجَر بالفتح بمعنى الهَذَيانِ أو التَّركِ أن تهذُون في شأنِ القُرآنِ أو تتركونَه أو من الهُجْرُخع بالضَّمِّ وهو الفُحشُ ويؤيِّدُه قراءةُ تُهجرون من أهجرَ في منطقهِ إذا أفحشَ فيه. وقرئ: {تهجّرون} من هجّر الذي هو مبالغةٌ في هجَر إذا هذى.
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول} الهمزةُ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه، والفاءُ للعطفِ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه الكلامُ أي افعلُوا ما فعلُوا من النُّكوصِ والاستكبارِ والهجرِ فلم يتدبَّروا القُرآنَ ليعرفُوا بما فيه من إعجازِ النَّظمِ وصحَّةِ المدلُول والإخبار عن الغيبِ أنَّه الحقُّ من ربِّهم فيؤمنُوا به فضلاً عمَّا فعلُوا في شأنه من القبائحِ. وأمْ في قوله تعالى: {أَمْ جَآءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءابَاءهُمُ الأولين} منقطعةٌ وما فيها من معنى بَلْ للإضرابِ والانتقالِ عن التَّوبيخَ بما ذُكر إلى التَّوبيخِ بآخرَ والهمزةُ لإنكارِ الوقوعِ لا لإنكارِ الواقعِ أي بل أجاءهُم من الكتابِ ما لَمْ يأتِ آباءَهم الأوَّلين حتَّى استبدعُوه واستبعدُوه فوقعوا فيما وقعُوا فيه من الكفرِ والضَّلالِ يعني أنَّ مجيءَ الكتبِ من جهتهِ تعالى إلى الرُّسلِ عليهم السَّلامُ سنَّةٌ قديمةٌ له تعالى لا يكادُ يتسنَّى إنكارُه، وأنَّ مجيءَ القُرآن على طريقته فمن أين يُنكرونه وقيل أمْ جاءهُم من الأمنِ من عذابه تعالى ما لم يأتِ آباءَهم الأوَّلينَ كإسماعيلَ عليه السَّلامُ وأعقابه من عدنان وقَحْطانَ ومُضرَ وربيعة وقيسٍ والحارثِ بنِ كعبٍ وأسدَ بنِ خُزيمةَ وتميمِ بنِ مُرَّة وتُبَّعَ وضبَّة بنِ أُدَّ فآمنُوا به تعالى وبكتبهِ ورسلِه وأطاعُوه.
{أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ} إضرابٌ وانتقالٌ من التَّوبيخِ بما ذُكر إلى التَّوبيخِ بوجهٍ آخرَ. والهمزةُ لإنكارِ الوقوعِ أيضاً أي بل ألم يعرفُوه عليه السَّلامُ بالأمانةِ والصِّدقِ وحسنِ الأخلاقِ وكمالِ العلمِ مع عدم التَّعلمِ من أحدٍ وغير ذلك ممَّا حازَه من الكمالاتِ اللاَّئقةِ بالأنبياء عليهم السَّلامُ {فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} أي جاحِدُون بنبُّوته فجحودهم بها مترتِّبٌ على عدم معرفتهم بشأنه عليه السَّلامُ ومن ضرورة انتفاءِ المبنيِّ بطلانُ ما بُنيَ عليه أي فهُم غيرُ عارفينَ له عليهِ السَّلامُ فهو تأكيدٌ لما قبله.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10